التدمير الذاتي

نحن كبشرٍ، من الطّبيعيّ أن نلجأ لبعض السّلوكيات كآليّاتٍ للتّأقلم على الصّعوبات الّتي نواجهها في الحياة، جزءٌ من آليّات التّأقلم قد يكون صحيّاً ومنتجاً ومثمراً، وجزءٌ منها مدمّرٌ مخرّبٌ لكلّ ما تمّ بناؤه سابقاً سواءً على الصّعيد الشّخصيّ أو العلاقات..
يرى عالم النفس وبيرمان أنّ هناك سبب رئيسيّ يدفع النّاس إلى سلوك التّدمير الذّاتي وهو الشّعور بالرّاحة على المدى القصير على الأقل، مع العلم أنّهم قد يندمون على هذه الأفعال في وقتٍ لاحقٍ.

عاداتٌ سيّئةٌ مثل التّدخين أو أكل الحلويّات على المدى الطّويل لن تجلب مشاعر الرّضا وقد تزيد الأمر سوءًا، ويبدو أنّه ثمنٌ يستحقّ دفعه مقابل الحصول على” السّعادة الّلحظيّة”.

يحدث التّخريب الذّاتيّ عندما ندمّر أنفسنا جسديًّا أو عقليًّا أو عاطفيًّا أو نعيق عمدًا نجاحنا ورفاهيّتنا من خلال تقويض الأهداف والقيم الشّخصيّة الأصيلة.

البعد الأوّل للتّدمير الذّاتيّ:
ينتج عن خلل التّنظيم السّلوكيّ اعتمادًا على مستوى الإدراك سواءً حدث هذا بوعيٍ أو دون وعي.

مثالٌ على التّخريب الذّاتيّ الواعي: هو اتّخاذ قرارٍ بتناول الحلويّات على الرّغم من هدف تناول الطّعام الصّحيّ.
أما التّخريب الذّاتيّ اللّاواعي يحدث عندما يتمّ هدم هدفٍ أو قيمةٍ شخصيّةٍ ولكن لم يتم التّعرّف عليها في البداية مثل تهرّب الزّوجة من العلاقة الحميمية رغم حاجتها إليها بسبب خلافٍ لم يتمّ حلّه مع الزّوج.

البعد الثّاني للتّخريب الذّاتيّ:
هو التّنافر المعرفيّ, ويعني عدم التّوازن الدّاخليّ أو عدم الرّاحة الّذي يحدث عندما لا تتوافق الكلمات أو الأفعال مع المعتقدات والقيم.
كقيام شخصٍ بالدّعوة إلى الله ولكنّه لا يؤدّي الفروض، أو يكون ناجحاً في عمله ولكنّه سيّء التّعامل مع أولاده.

عندما يحدث هذا، تجد أنّه لا يمكن للشّخص أن يتعايش مع هذا التّناقض طويلاً إلّا لو طوّر آليّاتٍ لتخفيف الانزعاج الدّاخليّ، عن طريق تغيير كلماته أو سلوكيّاته أو عن طريق إعادة صياغة أهدافه وقيمه مجدّداً. فالفتاة الّتي لا تصلّي مثلاً ولكنّها ترتدي الحجاب ترى أنّها متناقضةٌ فتلجأ لاختيار أحد الطّرفين وتسير نحوه.

من أشكال التّدمير الذّاتيّ:
التّدمير الذّاتيّ متجذّرٌ في العقليّات الّتي تميل للتّحجر والتّوقف عن أداء مهمّاتها عند حدوث خللٍ ما, بما في ذلك السّلبية وعدم التّنظيم والتّردّد والتّواصل السّلبيّ مع النّفس.
الميل إلى الكماليّة ومتلازمة المحتال هي أيضًا من أشكال التّدمير الذّاتيّ.
وأكثر الأشكال الخبيثة المنتشرة لتدمير الذّات هو المشتّتات الطّائشة الّتي تمنع تحقيق الهدف.

من أمثلة السلوكيات المدمّرة:

  •  المماطلة والكسل
  • الأكل والنّوم الزّائد
  • التّدخين والكحول
  • عدم تنظيم الوقت
  • الشّعور بالذّنب بشكلٍ مستمرٍّ
  • مخالطة السّلبيّين والفاشلين
  • الانشغال بالأمور الصّغيرة وتأجيل القيام بالأمور الكبيرة
  • الرضا بالقليل
  • الاعتقاد السّلبيّ بعدم وجود العدل
  • النّظرة السّلبيّة للحياة
  • الاستسلام واليأس
  • الاهتمام بالتحفيز الخارجيّ دائماً
  • الخوف
  • الشّكّ
  • تضييع الوقت بالتّفكير المستمر بالخطأ والتّفكير بالماضي ومراجعته مراراً وتكراراً للبحث عن أسباب كلّ خلل وكلّ خطأٍ بدلاً من التّخطّي
  • المقارنة غير العادلة
  • استبطاء النّتائج
  • كثرة الشّكوى والتّذمر
  • الخوف من النّقد

التّخريب العلائقي:
يحدث التّخريب في العلاقات على مستوى العلاقات والعمل، ويظهر بأشكالٍ مختلفةٍ، بما في ذلك:

  • اختيار شركاء سيّئين
  • اختيار المشاجرات
  • رفض الالتزام الكامل بالعلاقات
  • محاولة تخريب العلاقات الذّاتية مع المقرّبين كالزّوجة والأبناء، أو الأسرة
  • تجاهل المشاعر السّلبيّة
  • انتقاد شريك الحياة
  • إضمار الضّغينة
  •  توجيه الطّاقة لأشياء أخرى غير العلاقة
  • التّركيز على عيوب الشريك

أشكال التّخريب الوظيفيّ:

  • الفوضى
  • التّردد
  • الكماليّة
  • التّسويف
  • متلازمة الدّجال

– إذا كان تخريب الذّات ضارّاً فلماذا تكراره؟
لا يقرّر النّاس تدمير أنفسهم عمداً، لكنّهم يفعلون ذلك طوال الوقت. لأنه ببساطة، ما يحصل على مكافأة يتكرّر.
التّخريب يملأ حاجةً أو فراغاً من نوعٍ ما, فلإيقاف دورة السّلوك الهدّام، نحتاج إلى اكتشاف الفراغ وتعلّم سلوكيات جديدة.

إليك بعض الأسباب المحتملة لذلك:
1. الرّغبة في تجنّب الصّراع:
أحد الاستجابات الغريزيّة للبقاء على قيد الحياة هو تجنّب الصّراع، كما تراه الدّكتورة جودي مؤلّفة كتاب (Stop Self-Sabotage)، لكن تجنّب الصّراع بشكلٍ مستمرٍ ودائمٍ والتّقوقع على الذّات ومنعها من الشّعور بأيّ مشاعر سلبيّة أو محاولة حمايتها دائماً مع المشاعر السلبيّة يجعل الهدف دائماً هو تجنّب الصّراع وعدم خوض أيّ مغامرةٍ أو تجربةٍ جديدة أو إحداث تغييرٍ في الحياة. فيحصل التّدمير الذّاتيّ عندما يقرّر الشّخص عدم قيامه بشيءٍ ليحمي نفسه.

2. القدوات الخاطئة:
يرى بعض العلماء أنّ سلوك تدمير الذّات سلوكٌ مكتسبٌ من الوالدين وأنماط الطّفولة، فيكتسب الأبناء قلّة ثقة الأهل بأنفسهم وخوفهم وقلقهم وحذرهم المفرط، والّذي يوصل رسالةً للأبناء أنّ العالم غير آمنٍ ومخيفٌ ويستدعي الحذر والقلق، وبالتّالي عليك أن تبقى في مكانك دون حراكٍ، أو تتحرّك بأقلّ قدرٍ ممكنٍ، أو أنّك لا تستحقّ أن تكون سعيداً لكونك مذنبًا أو مقصّرًا أو تمتلك بعض الصّفات السّلبيّة أو فعلت بعض الأخطاء الّتي تعتبر فادحةً، بعض الأفكار مقتبسةٌ من المصادر الدينيّة وتفسيراتها البشريّة حيث يعتبر المعاناة جزءًا رئيسيًّا من كونك شخصاً جيدًا، وأنّك إن شعرت بها فأنت بعيدٌ عن الديّن والإيمان، ولا يمكن أن تشعر بها إلا في سياقٍ دينيٍّ بحتٍ.
3. الرفض أو الإهمال:
يمكن أن يؤدّي رفض أحد الوالدين أو إهماله إلى تدنّي احترام الذّات ومشكلاتٍ أخرى تتعلّق بالصّورة الذّاتيّة السّلبيّة. وهذا يمكن أن يجبرنا على تخريب العلاقات الشّخصيّة في محاولةٍ لتجنّب المزيد من الضّعف والرّفض.
4. التكيّف مع السّلوكيّات غير القادرة على التّكيّف:
لحلّ مشكلةٍ ما فإنّنا نلجأ لبعض الحلول التّلطيفيّة، مثل مواجهة الامتحانات بزيادة الأكل، أو الخوف من الظّلام بالنّوم في سرير الوالدين، قد يحصل لاحقاً أن تستمر السّلوكيّات التكيفيّة أو تفقد قيمتها في توفير الرّاحة والسّعادة والهدوء، فيبحث عن حلولٍ أكثر جدوى كتناول المنشّطات أو المهدّئات.
5. الصّدمة:
كالتّحرّش والفقد والإيذاء، الّذي يدمّر الإنسان ويدمّر ثقته بالآخر، حيث ينظر للعالم ولنفسه على أنّه لا يستحقّ الأشياء الجيّدة، وأنّه مهما فعل فلن يحصل على نتيجةٍ مرضيةٍ.

يقول الباحث جاكوبسن “ينشأ عدم الأمان من النّاقد الدّاخليّ الّذي يخبرنا أنّنا لا نستطيع إنجاز مهمةٍ معينةٍ أو أنّنا لسنا جيّدين بما يكفي”

قد يستنزف الماضي ثقة الإنسان بنفسه، ويجبره على خلق عاداتٍ سيّئةٍ تعمل على حمايته من ألم الفشل، كما أنّ بعض سلوكيّات التّدمير الذّاتيّ تجعل الإنسان يشعر بأنّه قويٌّ مسيّطرٌ وقادرٌ على التّحكم، مثل أن ينفث المدخّن سيجارته في الهواء ويتحكّم بها وبإطفاءها وإشعالها مراراً وتكراراً.

كيفيّة وقف التّدمير الذّاتيّ:
– إذا كانت جذور التّدمير الذّاتيّ عائدةٌ على الطّفولة والتّجارب العاطفيّة الّتي أثّرت على إدراكنا فإن الشّفاء منها يحرّرنا من هذه الحلقة العاجزة الضّعيفة الّتي رسمت الأفكار السّامّة المؤذية.
– الوعي الذّاتيّ الصّحيّ سواءٌ على الصّعيد الشّخصيّ بقراءة كتب المغالطات المنطقيّة ومعرفة أخطاء التّفكير، أو بالدّخول لدوراتٍ تدريبيّةٍ متخصّصةٍ بتطوير الذّات والكشف عن عيوبها، فهم أنماط التّعلّق والانفتاح على مزيدٍ من التّواصل المفتوح والصّادق مع الذّات ومع الشّركاء.
ويمكن للعلاج النّفسيّ الكشف عن الأنماط السّلوكيّة المسبّبة لهذا التّدمير سواءً كانت لها جذورٌ في الطّفولة أو تكوّنت جرّاء صدمةٍ نفسيّةٍ أو عاطفيّةٍ.
– إدراك المخاوف العقلانيّة بوعيٍ لأنّ السّلامة والحفاظ على الذّات ضروريّةٌ, إلّا أنّها تمنعنا من التّقدّم في الحياة المهنيّة والشّخصيّة. تتضمن بعض المخاوف الشّائعة غير المبرّرة الخوف من الالتزام والمجهول والتغيير والفشل وفقدان السّيطرة.
– معرفة الأفكار المحفّزة للتّدمير الذّاتيّ هي النّقطة الرّئيسيّة لتغيير أنماطها، قد تخرج هذه الأفكار مصحوبةً بردّ فعلٍ عاطفيٍّ شديدٍ كنوبات البكاء والغضب أو الانزعاج، عبّر بعض العملاء الذين قابلتهم خلال الجلسات عنها بسقوطهم في فجوةٍ أو حفرةٍ أو شعورٍ بالدّوار الشّديد أو رغبةٍ عارمةٍ بالضّرب أو الصّراخ أو البكاء وضرب النّفس.
بعد أن يحدث هذا يتمّ إلغاء تنشيطها عن طريق بناء نمطٍ جديدٍ للهويّة الذّاتيّة والحديث الإيجابيّ مع النّفس وتعديل الأفكار وتمييزها.
– كتابة المذكّرات: وكثيراً ما أنصح العملاء بهذه الخطوة المهمّة لمعرفة الأنماط المتكرّرة لديهم، ومساعدتهم على تهدئة مشاعرهم واستعادة السّيطرة على أنفسهم وسلوكيّاتهم.
قد لا يفلح نمط الكتابة مع بعض العملاء فيستخدمون الرّسم والخربشة أو الكتابة بأحرفٍ غريبةٍ، أو قول الأفكار بلهجةٍ مضحكةٍ, فتغيير العلاقة مع الأفكار يمهّد للتّخلّي عنها.

– خطواتُ صغيرةُ لهدفٍ كبيرٍ: كثيرًا ما أقول للمراجعين ( كيف يمكن أن تأكل فيلاً كبيراً) ؟ يؤسّس هذا السّؤال لنمطٍ من التّفكير المعتمد على التّدرّج والنّموّ، والّذي يؤهل العميل أن يستبصر أنّ كلّ النّاجحين كانوا يوماً أشخاصاً عاديين قد عانوا في حياتهم، لكنّهم آثروا الخروج إلى حيّز العمل والجدّ والاستبصار الذّاتيّ في الاحتياجات الشّخصيّة والأنماط السّلوكيّة لأنفسهم ولأسرتهم.
– لا تركّز على العثرات، احتفل بإنجازاتك الصّغيرة، واستمرّ بالحركة.

بودكاست أنصح به:
https://podcasts.apple.com/gb/podcast/the-self-sabotage-to-success-podcast/id1531781190

#أسماء_الجراد

اقرأ أيضاً: رحلة مع الوعي

مشاركة المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إن كان لديك أي مشكلة أو استفسار أو سؤال يمكننا مساعدتك فوراً عبر التواصل سجل اسمك ورسالتك : ​

Contact Form Demo