وهم الكمال

من وقت إلى آخر نسعى للحصول على الكمال النهائي والمطلق!

الجمال الكامل! الدرجة التامة! أن تكون موظفاً رائعاً، أو ربة منزل خارقة، وأمّاً متميزة، زوجة لا مثيل لها، أو أباً مثالياً، وصاحب عمل متفوق، وأن تحظى كذلك بحياة اجتماعية مثالية.

يُكرّم الكماليين يومياً على مستوى العالم، في الرياضة والصحة والكتابة، والنجاح الشخصي، والأكاديمي، والوظيفي.

وقد يكون السعي إلى الكمال أحد المعايير الذاتية التي يضعها الناس لأنفسهم، بهدف تحقيق حياة أكثر جودة والتغيير للأفضل، إلا أن هذا السعي قد يشكل خطراً كبيراً على الصحة النفسية ويؤدي إلى أمراض نفسية وعقلية.

الفرق بين الكمالية والسعي للتميز:

يشعر الناس يومياً بالحاجة إلى العمل لتحقيق ذواتهم، ولتطوير شخصياتهم وأفكارهم، ويعدّ السعي للتميز سمة شخصية بارزة ترتبط بالموهبة وبالشخص الموهوب.

  • الساعون للتميز هم أشخاص يعملون بجد، ويتمتعون بالثقة في النفس، ويشعرون بالارتياح عند حصولهم على درجة جيدة كما أنهم مستعدون للمخاطرة وخوض التجارب الجديدة، والتعلم من هذه التجارب ومن الأخطاء.
  • أما ناشدو الكمال فيرهقون أنفسهم بالعمل والدراسة ولا يشعرون بالثقة في أنفسهم مطلقًا، يلومون أنفسهم على كل تقصير، ويشعرون بالفشل عند عدم حصولهم على الدرجة الكاملة، كما أنهم يهربون من التجارب الجديدة خوفاً من ارتكاب الأخطاء.

هل الكمالية/المثالية سيئة؟

تصيب الكماليين ثلاثة أعراض رئيسية، هي:

  • الإرهاق العاطفي: بسبب المطالبة المفرطة لأنفسهم أو لشركائهم بالكمال والخلو من العيوب ورفض أي قصور من أي نوع.
  • التقليل من قيمة الإنجاز: رغبة بالمزيد، وللوصول إلى درجات أعلى ومرحلة أقصى، وهو ما يجعلهم يشعرون دوماً بأنّ إنجازاتهم قاصرة، وأنهم يحتاجون بذل المزيد للوصول لمرحلة أعلى، الأمر الذي يدفعهم إلى التقليل من أي إنجاز مميز يقومون به لشعورهم بأنه أمر عادي ولا يستحق الحديث عنه أو الفخر به، وإن أبدى الناس إعجابهم بالعمل والإنجاز إلا أن قيمة الأمر في نفس المثالي تبقى ضئيلة ولا تستحق الفرح.
  • موقف سلبي من الذات أو الآخرين: لحكم مسبق يجعل المثالي متشبث به وهو أن كل ما يقدم يبقى قاصراً ويحتاج المزيد.

أما الكمال في بيئة العمل، فيشكل عبئاً على صاحبه، حينما:

  • يجد المثاليون صعوبة في توكيل المهام إلى غيرهم، ويصعب عليهم التخلي عن التفاصيل الصغيرة التي تقضّ مضاجعهم وتكدر صفو فرحتهم.
  • يسيطر القلق على المثاليين نتيجة لالتزام الشديد والمستمر برغبة التفوق في كل المجال فإما (كل شي أو فلا) مما يزيد التوتر والخوف من فقد المكانة وفقد الثقة بالنفس.
  • يتجنب المثاليون المغامرة أو خوض أي تجربة جديدة غير محسوبة جيدًا، ويسعون دائمًا إلى التأكد التام منها ومن قدرتهم على تحقيق نسبة نجاح في التجربة تصل إلى 100%، وإذا نقصت هذه النسبة يكون الإحباط ولوم الذات وأحياناً التوقف عن إكمال الأمر ليصل إلى الفشل التام.

سمات الكماليين:

  • الأداء الوظيفي والتعليمي العالي:

يقدس الكماليون العمل ويجاهدون يومياً ليكونوا أول الواصلين إلى عملهم، وإذا كانوا يشغلون مراكز إدارية فإنهم يغضبون بشدة عند تأخر الموظفين عن الوصول في الوقت المحدد.

كما يشعر الطلاب الكماليون بالتنافسية الشديدة مع الآخرين ويناضلون للحصول على المراكز المتقدمة، وقد يصابون بالاكتئاب إذا لم ينالوا الدرجة الكاملة.

  • التنظيم والنظافة:

يسيطر على الكماليين رغبة دائمة بأن يتمتع كل ما حولهم بالنظافة والترتيب، ويهتمون بتفاصيل لباسهم وأناقتهم، ويختلفون مع شركائهم في السكن حول النظافة والترتيب ويطالبونهم بمعايير عالية مما يسبب لهم كثيراً من مشاكل العلاقات والانفصال والهجر.

  • الوعي الذاتي:

يهتم الكماليون جداً بما يتحدثون به، ويفكرون كثيراً قبل أي جملة، ويستبعدون أي فكرة قد تفهم على وجهين، ولديهم معايير عالية في التفكير مما قد يرهقهم في التواصل مع الآخرين ويزعج من حولهم أيضاً لا سيما حين يترجمون ألفاظهم وأفكارهم بطريقة تنافي مقصدها.

أسباب المثالية:

ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في ظهور هذه العقدة وترسيخها عند أغلب الأشخاص من خلال إظهار حياة بعض صانعي المحتوى مثالية من جميع النواحي، وعلى الرغم من ظهور زيف تلك الحياة عند بعضٍ منهم، إلا أن عقدة المثالية ما زالت مترسخة وثابتة.

وترى إحدى النظريات النفسية وهي (نظرية التنشئة الاجتماعية) أن الكمالية تأتي من البيئة التي ينشأ بها الإنسان، ويظهر هذا من خلال:

  • التنشئة: قد تتكون هذه العقدة من الطفولة إذا نشأ الطفل في جو من المثالية والكمال إذ قد يكون الوالدان راغبين بالكامل لا يرضيان بالنقص أو القصور؛ فيدفعان أبناءهم إلى بذل المزيد من الجهد لتحقيق الكمال إرضاء للوالدين، من دون تشجيع وتحفيز.
  • كيفية التفاعل: إذ إن التقليل من عمل الطفل أو المبالغة في مدحه يؤدي إلى النتيجة نفسها؛ وهي عدم تصديق ما يقوله الآخرون والبحث عن الكمال بطرق مختلفة.
  • وجود الطفل في محيط أكبر من قدراته: سواء من الأخوة أو الأقران في المدرسة (مثل إلحاق الطفل في المدرسة قبل سنه المناسب فلا يستطيع اللحاق بمن هم في صفه) مهما بذل من جهد وطاقة.
  • مقارنة الطفل بأشخاص ذوي قدرات عالية من أقرانه (فلان حفظ القرآن، فلان فعل كذا وكذا…الخ)، أو التقليل من شأنه دوماً بالتحقير والإهانة أو الشتم مع كثرة الثناء على أفعال الآخرين.
  • النظر والاهتمام لما يقوله الناس وتنشئة الطفل على ذلك: (نلبس لأجل الناس، نفعل كذا لكي يرانا الناس، نمتنع عن أمر لكيلا يتحدث الناس عنا بسوء…الخ) فيصبح الطفل مهتماً برأي الناس فيه وماذا يقولونه عنه أكثر من اهتمامه برضا نفسه وسكينتها.

بينما ترى نظرية نفسية أخرى، وهي نظرية (التعلق) لكارل روجرز 1959م، أنّ للناس دافعاً طبيعياً نحو تحقيق إمكانياتهم، وبالتالي لديهم إحساس فطري بما يساعد أو يضر في قدرتهم على تحقيق ذواتهم.

لذا فإنّ الإنسان يسعى إلى تكوين علاقة مع الشخص الذي يقدم له أفضل الدعم والخدمات ويكون مصدر الثقة الكاملة، فهو يختار في الحب والاقتداء والتمثل الأشخاص الكاملين، المتميزين عن غيرهم، هذا التميز الذي يظهر بالصفات الجسدية والنفسية المثالية.

الخلاصة: حين نتعرف على أصول الكمالية ونعي وجودها، نكون أكثر قدرة على معالجتها وضبطها.

لفحص مشكلة الكمال يمكنك تحميل الملف التالي :  اختبار الكمال

لمعالجة الكمالية المفرطة يمكن أن تجرب ما يلي:

  • فهم نفسك وقدراتها وإمكانياتها وحدودها وطاقتها، ولا تكلفها فوق ما تستطيع، ولا ترض لنفسك بالقعود وعدم العمل.
  • إعادة تقييم الذات، ومعرفة مواطن القوة للاستفادة منها، ومواطن الضعف لتغييرها وتطويرها، والتدرب على المرونة النفسية والقبول والتقبل، مع ملاحظة الأعراض التي تؤدي إلى الإرهاق ومعالجتها.
  • الاستفادة من التدوين اليومي وكتابة الإنجازات الشخصية -للنفس وليس للآخرين- والفخر بها، ومدح الذات وشكرها ومكافأتها عند إتمام المهمات.
  • معرفة أن طبيعة الدنيا فيها النقص والزلل والخطأ والقصور ولا يعقل أن يحوز المرء الكمال دوماً، فقد ينجح في أشياء ويفشل في غيرها.
  • عدم الالتفات لآراء الآخرين والاكتفاء بسماع نصائح المهتمين وتَذَكُّر أنّ إرضاء الناس غاية لا تدرك.
  • تدوين الملاحظات أو جوانب القصور والعمل على تفاديها وتحسينها من دون إجهاد النفس أو الآخر.
  • الاحتفال بالنجاحات الصغيرة ووضع أهداف واقعية يمكن تحقيقها وتقسيم الأهداف الكبيرة إلى أهداف صغيرة يمكن إنجازها على عدة مراحل.
  • الاستعانة بالله والبعد عن العجز، وتمني ما عند الآخرين من مال وصحة وظروف، فلكل إنسان قدره ورزقه وقدراته.
  • مساندة الآخرين وعدم التقليل من مجهودهم وإنجازاتهم، وشكرهم، والثناء عليهم.
  • تكوين علاقة موثوقة ومستقرة بين الوالدين والأبناء، وتشجيع أداء الأبناء، وتجنب الحبّ المشروط بالأداء أو الإنجاز أو تحقيق الأهداف.
  • إدراك أنّ الأخطاء فرصة للتعلم، وكل الشخصيات الناجحة مرت بمواقف الفشل وتعلمت منها، وتعرفت على أخطائها واستفادت منها.

وأخيراً..

قد يتشكل السعي إلى الكمال في وقت مبكر من حياتنا، كاستجابة طبيعية للنقد أو التمييز أو الخوف على المكانة، ومن الممكن أن تكون له آثار بعيدة المدى، على الشخصية والعمل والعلاقات، قد يتركنا مستنزفين عاطفياً أو غير قادرين على إكمال ما هو مطلوب منا.

فإذا وجدت نفسك منهكاً وتعاني من آثار الكمالية المفرطة، يمكنك تجربة العلاج السلوكي المعرفي للتخلص من هذه الأعراض، والوصول إلى حياة أكثر توازناً وأقل تعقيداً، فتحسّن بذلك علاقتك مع نفسك ومع الآخرين.

#أسماء الجراد

اقرأ أيضا التدمير الذات

مشاركة المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إن كان لديك أي مشكلة أو استفسار أو سؤال يمكننا مساعدتك فوراً عبر التواصل سجل اسمك ورسالتك : ​

Contact Form Demo