قديماً حين كانت المجتمعات عائلية، كانت العلاقات وخصوصاً الزوجية تدار بطريقة العائلة الكبيرة وليست بطريقة الزوجين وحدهما،
فكان للعائلة دور كبير في تسيير أمور المجتمع، ابتداءً من طريقة التقاء الزوجين الذي يتم عبر اجتماع عدد كبير من وجهاء عائلتي الطرفين (العروس والعريس) والاتفاق على كل ما يخص الزوجين، وكلما كان عدد هؤلاء الوجهاء أكبر كلما كان للزوجة أو الزوج مكانة أكبر لاحقاً في منزل الزوجية، وفي حال حصول خلافات بينهما كانوا يجمعون وجهاء العائلة وأقاربها، ويجلسون لمناقشة أسباب الخلاف والاتفاق على ما يصلح الأمور، ثم يكون كلا الطرفين ملزماً بتطبيق ما تم الاتفاق عليه، وصولاً إلى طريقة إنهاء العلاقة الزوجية وتفصيل التعامل بينهما وتقسيم التركة في حالة الوفاة وتوزيع النفقة وغيرها، وبغض النظر عن مدى صحة ما يتم خلال هذه المجالس إلا أنها كانت تضفي مكانة وشرعية على الصلح الذي تم، وتحظى باهتمام كل الأطراف وتشعر الزوجين بأهمية العلاقة وأنها محاطة بالدعم والتفاهم والاتفاق.
حديثاً، ومع تباعد الأسر والتغير الاجتماعي الحاصل وتعاظم الاستقلالية، والهجرات التي اضطرت لها أغلب الأسر، لم يعد لتلك المجالس وجود، وأصبحت الخلافات تُحلّ بشكل شخصي ومنفصل، وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى خلافات أكبر في حال عدم قدرة الطرفين أو أحدهما على الأقل على التعامل بشكل عقلاني وصحيح.
وبما أن المشكلات تعتبر جزءاً طبيعياً من الحياة الزوجية، فإنه في حال تصاعد حدة الخلافات والمشاكل أصبح من الواجب اللجوء إلى خبير ومعالج أسري للتخلص منها.
ومع ذلك، وربما لأن العلاج الأسري يتعلق بخصوصية العائلة التي تعتبر مقدسة في مجتمعاتنا العربية فإن هذا المجال يكتنفه الغموض وتحيطه الخرافات المتداولة بين العامة، والتي تمنع الأسرة من الاستفادة من الخدمات المقدمة لهم من قبل المتخصص الأسري أو تمنعهم من التوجه لحضور جلسات العلاج رغم تفاقم المشكلات فيها.
إليكم هنا بعض أشهر الخرافات التي تخص العلاج الأسري:
الخرافة الأولى/
إذا لم يحضر الزوجان للجلسات معا فلا فائدة من العلاج:
الحقيقة: إن فائدة العلاج الأسري وفعاليته تعتمد خلال الجلسات على العديد من الأمور المهمة، منها:
- وعي الزوجين بمشاكلهما والاعتراف بها.
- تقبل الطرفين للحلول والرغبة في التغيير وعدم التحجر.
- رغبة كلا الطرفين في استمرار العلاقة وعدم الطلاق.
- تطبيق الاستراتيجيات والتمارين المقدمة.
ولكن قد يحصل أن يرفض أحدهما حضور الجلسات أو التفاعل مع المختص، فهل يعني هذا أن يبقى الطرف الآخر متضرراً ويجرب العديد من الحلول غير المدروسة والعشوائية؟
طبعا لا. فإن طلب العلاج مفيد لطالبه بحيث:
- يستفيد طالب العلاج من الجلسات لنفسه ولتطوير ذاته ومعالجة المشاكل التي تكون من طرفه.
- يستفيد في تغيير وجهة نظره للمشكلة وتدريب نفسه على حدها بحدود صغيرة لا يجعلها تتفاقم وتكبر وتستحوذ على كامل تفكيره.
- يستفيد في تطبيق التمارين والواجبات في تغيير ردة فعل الطرف الآخر وتغيير سلوكه ولو نسبياً.
- يستفيد من تخفيف الضغط والتنفيس عن غضبه وتراكماته.
ولذلك فإن طلب أحد الزوجين للعلاج هو أمر فعال في حل المشكلة،
أما لو طال انتظار المشكلة أصبحت الحلول أكثر صعوبة وأصبحت عودة العلاقة لوضعها الطبيعي شبه مستحيلة.
الخرافة الثانية/
العلاج الأسري مجرد فضفضة، وأن الحديث مع الأصدقاء له نفس تأثير المعالج الأسري:
يعتقد بعض الناس أن الحديث مع المعالج النفسي والأسري هو مجرد حكايا وفضفضة، وأنه يمكن الحصول على ذات التأثير عند التحدث مع الأصدقاء والأقارب والجيران. وأن وجود صديق منصت ومستمع بشكل جيد يساعد على التخلص من المشاكل، وهذا صحيح بحد معين ومحدود، فوجود أصدقاء يتشاركون نفس الهمة والهموم، ويتعاونون مع بعضهم في تحقيق الأهداف أمر له بالغ الأثر في التعافي النفسي الذاتي.
لكن هذا التأثير يبقى محدوداً وضعيفاً أو سلبياً مدمراً لو كان الصديق لا يتقن بعض مهارات التواصل الجيدة، أو يضيف إلى مشكلتك بعض المشاكل والتجارب الشخصية التي يمر بها، أو يفاقم المشكلة أو يضخمها ويهولها، أو يتجاهلها ويستخف بها.
بالإضافة إلى أن الصديق يتعامل معك بعاطفته، فينجرف معك بدون وعي في التعاطف حتى ينغمس في مشكلتك، ويصبح بدل انتشال شخص واحد من مشكلته، يضاف عليك عبء مساعدته وإصلاح الموقف.
من المشاكل أيضاً هو الخوف من اهتزاز الصورة الذاتية أمام الصديق، فبعض الناس بعد أن تفضفض تندم وتنزعج من نفسها، وقد تقطع العلاقة مع الصديق _وقد حدث معي الأمر شخصياً عدة مرات_فقد يذكرك الصديق لاحقاً بمشكلتك كلما شاهدته أو سمعت باسمه، وقد يذكرك بمرحلة من حياته يريد أن يخفيها أو يمسحها، مثل المرأة التي تحذف صديقاتها بعد الانفصال أو المرور بمشكلة ما.
لذلك فإن العلاج الأسري يعتمد على:
- الحفاظ على السرية.
- الوقت المحدود الذي تقضيه مع المعالج.
- عدم الانغماس معك بمشاكلك بل يحافظ على هدوئه وثباته فتتعلم منه وتستمد القوة.
- يعلمك الطرق الصحيحة للخروج من مشاكلك النفسية والاجتماعية، بينما الصديق قد يجرك إلى طرق خاطئة وغير صحية.
- المعالج لن يتذكر مشكلتك لاحقاً ولن يذكرك بها ولن يفش لك سراً أو يتعمد أن يضرك بها أو يستخدمها ورقة ضدك بينما الصديق قد تنفصل علاقته بك فيخبر الناس عنك، أو يتحدث عنك بسوء.
- المعالج يدعمك بعملية التغيير ويمكن أن يصنع منك نسخة أفضل، لكن الصديق قد يساعدك على استنساخ شخصيته أو لا يدعمك بالتغيير فيحبطك أو يستفزك أو يحمسك أكثر من اللازم.
وعلى الهامش:
بعض الأصدقاء الذين يحبون أصدقاءهم قاموا بإهدائهم جلسات علاجية، فكان لها وقع جميل وأثر بليغ على نفسية الصديق. فلهم الشكر والتوفيق، لذلك كان الحديث معهم عن المشاكل باب لتفريج الكربة والعلاج الصحيح.
الخرافة الثالثة/
العلاج الأسري لديه عصا سحرية لحل جميع المشكلات، وعودة الحياة كما كانت:
ربما سمعتم من قبل عن أحد الأفكار الطبية التي تقول نجحت العملية ومات المريض!
وللوهلة الأولى نرى أن هذه الفكرة غريبة ومستهجنة فكيف يمكن أن تنجح العملية دون نجاة المريض، لكن، في الواقع إنّ نجاح العملية يعتمد على عوامل كثيرة يجب أن تكون متوفرة خلال رحلة التعافي.
منها ما يكون قبل العملية مثل مستوى المناعة والأمراض الوراثية والبيئة التي يعيش فيها وطبيعة حياته ونمط التغذية وغيرها.
ومنها خلال العملية كمهارة الطبيب وجودة العمل وتوفر العناية الكافية..
ومنها ما يكون بعد العملية مثل المتابعة الصحية والتمريض وتطبيق تعليمات الطبيب ..
لكن قد يصل مريض السرطان إلى المرض في مراحله الأخيرة ثم يقرر دخول العملية، فيموت في غرفة العمليات لأن جسده لم يعد يحتمل الجراحة أو أن الورم انتشر بدرجة بات من المستحيل السيطرة عليه.. فتكون العملية ناجحة لكن المريض لا يحتمل العملية فيموت .
وهنا تقع إحدى أشهر المغالطات المنطقية
هل العملية هي سبب الوفاة؟
وهل يمكن تفادي الموت لو لم تحصل العملية؟
لو طبقنا الفكرة السابقة على العلاج الأسري فهي تشبه كثيراً من الحالات التي يصل فيها العميل في وضع مزرٍ جداً وحالة نفسية ومشاكل مركبة وأوضاع متردية وصعبة لا يمكن فيها تدارك الوضع ولا علاجه بسهولة .
فكما أننا نراهن على مستوى مناعة العميل وقدرته على تخطي الأزمة ولكننا لا نتفاءل دوماً بنجاح الخطة في هذه المرحلة وقد كتبت سابقاً:
“من المحتمل أن تكون الرغبة في العثور على نهايات سعيدة لقصص حزينة موجودة في الحمض النووي لمعظم المعالجين الأسريين“
ونحن نتمنى ونأمل أن يتعافى العميل من الأزمة التي يمر بها، لكن لا ننغمس بالتفكير الإيجابي والأحلام المعسولة .
فقد تنتهي الخطة العلاجية وجلسات الصلح: بالطلاق/ الرسوب / الوصول للمحاكم / عدم القدرة على الاستمرار بدون علاج دوائي/ البقاء في الإدمان/ استمرار المشكلة كما هي ..
فالعلاج الأسري ليس العصا السحرية التي يمكننا بتلويحة منها أن نحل جميع المشاكل ونرتب حياة المستشير كما يحدث في المسلسلات الكرتونية، لهذا فإننا نعول على وعي العملاء في الاهتمام بالنفس والعلاقات وتقوية المناعة الذاتية والتدرب قبل الأزمات والتعرف على النفس بشكل جيد في أوقات الرخاء والراحة حتى تصمد في وقت الشدة والأزمات وتنجو بإذن الله من عواصف المشاكل الأسرية والنفسية والاجتماعية ..
وبعض ما يساعد العميل على تحقيق الاستفادة القصوى من الاستشارات هو:
- طلب المعالجة في حال الشعور بالخطر وتفاقم المشكلة قبل أن يتسع الخرق على الراتق، كي لا يصل المستشير لما لا يتمناه ولا يريده.
- الالتزام باستكمال التمارين والواجبات المطلوبة منه حتى لا ينتكس ويعود لما كان عليه.
- الاستمرار بالمتابعة حتى الوصول لبر الأمان والاستقرار النفسي والعاطفي والأسري، فلا يرى أنه تحسن بمجرد الحديث والشعور ببعض الاستقرار النفسي للفضفضة كأنه مسكن للعرض فيترك الدواء الذي يعالج المرض نفسه.
الخرافة الرابعة/
المعالج الأسري لا يتعرض للمشكلات الاسرية!
هل يصاب طبيب العيون بالعمى؟
هل يمكن أن يصاب طبيب الجلدية بالبهاق؟
هل يمكن أن يتعرض منزل الشرطي للسرقة؟
كما يمكن أن تحصل الأمور أعلاه فإن المعالج الأسري والمختص النفسي والاجتماعي معرض كغيره من البشر للمشاكل الشخصية والأسرية والنفسية، ويتعرض مع ذلك لضغط أكبر من غيره لكونه يشعر بأنه موضوع في قالب (المعالج).
ولا يعامل كالإنسان الطبيعي: الذي يمكن أن يُعذر ويُتغافل عن أخطائه وهفواته وزلاته.
ولأن أقرانه وأصحابه عادة يلتمسون منه الدعم والعاطفة والاهتمام ولا يتوقعون منه أنه يلتمس منهم الأمر ذاته.
ولأنهم يرونه الأعلم والأفقه والأكثر خبرة فهم يلمزونه أحياناً وينكزونه بأنك (تقول ما لا تفعل/ أو كيف تقول هذا وأنت المستشار) !.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة:حيث تعرض منزل النبوة لكثير من الخلافات والمشاكل الاجتماعية:
غيرة بين النساء / كسر للصحفة/ قصة الإفك / جدال / ريح مغافير / نشر أسرار / نزاع بين النسوة ..
فكيف لا يكون (بيت المعالج وأسرته).
- قد يتعرض المعالج كغيره من البشر لاختلافات في البيئة والذوق والتعامل، وقد يظهر مع أهله بوجه غير الذي يظهر فيه مع الناس ولهذا يقال دوماً:
(أزهد الناس في العالم أهله) ويقال (مزمار الحي لا يطرب) - وقد يفشل المعالج في إصلاح بعض الجوانب في حياته، كما قد يصاب الطبيب النفسي بالاكتئاب والحزن ونوبة الغضب، وهذا كله لا ينقص من قدره وعلمه ومكانته، بل يجب أن يتعامل معه من هو أعلم منه وأقدر على مساعدته، حيث لا يستطيع هو الآخر مساعدة نفسه بمفرده.
الفرق بين المعالج وغيره في هذه الظروف:
يظهر الفرق في أنه أكثر قدرة على معرفة نفسه والتعامل مع المواقف بحكمة وثبات، وعلى اجتناب مواطن الضرر المؤثرة عليه، وعلى سرعة التعافي التي يتمكن بها من العودة للحياة الطبيعية، وعلى قدرته على الفصل بين ما يشعر به وبين مشاكل الناس التي يساعدهم، وعلى فهم مشاعره والتعبير عنها بسهولة قبل أن تصبح كتلة عقد مركبة يصعب فكها، فالمعالج الأسري والنفسي إنسان يعتريه ما يعترٍي البشر في تقلباتهم ونزواتهم وأمراضهم ومشاكلها، وله قلب يحزن وعين تدمع وليس جلمود صخر لا يأبه لما يعتري الكوكب من مصائب ونكبات، وهو يتأثر ويتعاطف ولا يمثل العاطفة، ويحب ويكره، لكنه لا ينغمس في الأحزان والهموم حد الغرق، ويحاول كثيراً كي لا يصل للاحتراق الذاتي والوظيفي.
وأخيراً، فإن ارتفاع نسبة الوعي في المجتمع في السنوات الأخيرة أدت إلى ازدياد عدد طالبي العلاج الأسري والمستفيدين منه، وهذا انعكس على نوعية الحياة داخل الأسر المستفيدة وجودة حياتهم وتواصلهم الفعال وعلاقتهم العاطفية والنفسية مع بعض، لكن تزداد هذه النسبة بخجل بين أفراد المجتمع ومازالت تلك الخرافات تمنع الكثيرين منهم من التصريح بلجوئهم لتلك الجلسات بل وربما تحضر الزوجة جلسات العلاج بعيداً عن زوجها ودون علمه مما يزيد العبء عليها في إصلاح ما فسد في العلاقة الأسرية سواء كانت مع الزوج أو مع الأولاد، ولكن من يجرب يعرف عظم الفائدة التي يحصل عليها من تلك الجلسات.
( بإمكانكم حجز جلسة استشارية ضمن موقع منارة نور من هنا )
#أسماء_الجراد