القيادة الذاتية

من المعروف أن البشر لا يولدون مع كتيب تعليمات، على الرغم أننا يجب أن نتعلم ونتعرف على ذواتنا، ونستمر في اكتشاف قدراتنا ومهاراتنا وحدودنا مدى الحياة، ومنذ الولادة يُتوقع منا أن نقوم بالعديد من الأدوار المهمة، ونتعلم قيادة أنفسنا في الحياة، لذا حين يطلق مصطلح (القيادة الذاتية) فإنه يعني امتلاك المهارات الأساسية في الحياة التي تمكن الإنسان من عيشها بقيمة ومعنى.


يمكن لأي شخص تنمية الكفاءات المطلوبة لقيادة نفسه. حيث يحدد كفاءة هذه القيادة: النوايا التي يقصدها والأهداف التي يطمح لها، لأن تعريف القيادة الذاتية يحتاج للتفسير والمعرفة فهو لم يتشكل يوماً في عقلنا الجمعي، ولا مصطلحاتنا التربوية المعروفة.


ومن القواعد الأساسية التي تبنى عليها الصحة النفسية وجودة الحياة، هي معرفة الذات والاهتمام بها والقدرة على رعايتها وقيادتها وتحمل مسؤوليتها وما يصدر عنها من أخطاء، وهذا المعتبر كركن أساسي وحجر الزاوية لسعادة الإنسان اليوم، فمفاهيم (الاتصال مع الذات، والتواصل الذاتي، وتقدير الذات) كلها تنشأ عن المعرفة بالنفس كأساس أولي لبداية هذه الرحلة الطويلة، حيث “يبدأ تقديرنا لذواتنا في التكون في مرحلة الطفولة المبكرة ويتطور ويتقلب طوال حياتنا. يضيف له ما يخبرنا به آباؤنا ومجتمعنا، وشخصيتنا، وتجاربنا الحياتية المجهدة، وجنسنا يؤثر على تنمية تقديرنا لذاتنا أثناء نمونا.

وقد كان للتراث الإسلامي النصيب الأول في شرح هذه المفردات وتبسيطها للفهم، فقد ورد في الأثر عن بعض السلف: “اعرف نفسك تعرف ربك”، فمن عرف ضعفه عرف قوة الله جل جلاله، ومن عرف جهله عرف علم الله سبحانه، ومن عرف ذنوبه عرف رحمة الله تعالى.


من الجيد أن ندرك، أنه يمكن للجميع أن يمتلكوا مهارات القيادة الذاتية بعد معرفتها والتدرب عليها، لذا فيمكنهم قيادة أنفسهم، لكن الفرق في ذلك أن هناك من يقود نفسه بوعي وحذر وفعالية، وهناك من يقودها بتهور وصراع وسلبية. “ومع هذا فإنه من الممكن تحسين المهارات في القيادة الذاتية من خلال تطبيقها، وهي مفارقة معترف بها صراحة في أدبيات القيادة الذاتية” 
وحين يفقد الانسان القيادة الذاتية واحترام الذات فإن هذا قد يؤدي إلى العديد من المشكلات، مما يجعل الرضا عن الحياة يبدو بعيد المنال.
فكثيرٌ منا، يختبئ خلف الحواجز والأسوار التي يصنعها، ويختلق الأعذار لعدم المشاركة في الحياة، ويرد بغضب أو جمود لإخفاء ما يشعر به.


ولأهمية هذا الموضوع في التواصل البشري والإنساني وقدرة الإنسان على التعامل مع المشكلات التي تمر به، فإنني أضع بين أيديكم هذه المقالة التي تشرح نبذة عن مفهوم الذات ومعنى الوعي بالذات وأهمية احترام الذات، ومفهوم القيادة الذاتية وأهميتها، وبعض الاستراتيجيات الخاصة بقيادة الذات، وكيف يؤثر ممارسة القيادة الذاتية على جودة حيواتنا.
 
ماهية الذات:
عرفها جيرالد  بأنه مفهوم افتراضي شامل يتضمن جميع الأفكـار، والمشاعر عند الفرد والتي تعبر عن خصائص جسمه وعقله وشخصيته.
ويعرفه (عادل الأشول) بأنه تكوين معرفي مـنظم موحـد ومـتعلم للمـدركات الشعورية والتطورات والتعميمات الخاصة بالذات يبلوره الفرد ويعتبره تعريفاً نفسياً لذاته.


الوعي بالذات:
 إن الأفراد المتميزون غالبا ما يكون لديهم وعي ذاتي بما يفكرون فيه، وتكون قناعاتهم قوية وثقتهم بأنفسهم عالية، خصوصاً حينما يتولد لديهم الاعتقاد بأن جميع المشكلات يمكن تجاوزها، والتغلب عليها ومجابهتها، والتدرج الواعي في تحليلهم للمواقف وتحديها، والعمل على مراقبة الذات بشكل مستمر، والانتباه الآني لجميع التصرفات وتسجيل ملاحظات ردود أفعال الآخرين عنها بينما قد لا يتولد هذا الوعي بالذات أو الشعور لدى الأشخاص الأقل وعياً وتمايزاً موازنة مع الأشخاص الأكثر وعياً.


احترام الذات:
يهتم علم النفس باحترام الفرد لذاته ويوليه الأهمية القصوى خصوصاً عند أطباء الصحة العقلية والنفسية، تقول الكاتبة (غلوريا ستاين):”احترام الذات ليس كل شيء إنه فقط لا يوجد شيء بدونها”
عندما نتكلم عن التقدير الذاتي فإننا نقصد به الأشخاص الذين لديهم شعور جيد حول أنفسهم.
وهناك كثير من التعريفات لتقدير الذات، والتي تشترك في طريقة معاملتك لنفسك واحترامها، فهو مجموعة من القيم والأفكار والمشاعر التي نملكها حول أنفسنا. فيعود مصطلح التقدير الذاتي إلى مقدار رؤيتك لنفسك، وكيف تشعر تجاهها.


القيادة الذاتية:
تعرف القيادة الذاتية بأنها تتيح القدرة والرغبة المثلى في الأداء وهي الأساس لأقصى أداء وظيفي.”يمكن فهم القيادة الذاتية على أنها عملية تحديد تجاربك المرغوبة وتوجيه وتحفيز نفسك عن قصد تجاهها”.

ويرى (العتيبي،) أن مصطلح القيادة الذاتية يستخدم لوصف التأثير الذي يمارسه البشر على أنفسهم والتصميم في التحكم في سلوكياتهم .
 ويقصد بالقيادة الذاتية العملية التي من خلالها يسعى الأفراد للتأثير على أنفسهم لتحقيق التوجه والتحفيز الذاتي الضروري للأداء.


يستخدم مصطلح القيادة الذاتية كجزء من المصطلحات التي تمثل التأثير الذاتي، وتظهر أيضاً نظرة للتحكم الذاتي الذي يشمل النظرة السلوكية والإدراكية في الكيفية التي يؤثر بها الأفراد في أنفسهم، وبذلك يمكن أن تعرف القيادة الذاتية: “بحيث تشمل التفكير والتصرفات التي يستخدما البشر للتأثير في أنفسهم وتدل ضمناً أيضاً أن البشر يرون أنفسهم كمصدر للتحفيز والتحكم”.


بذلك تختلف القيادة الذاتية عن التمكين النفسي، فالقيادة الذاتية تعرف كعملية تستخدم مجموعة من الاستراتيجيات السلوكية الإدراكية. أما التمكين النفسي فحالة إدراكية تحدث بفعل مجموعة من العوامل الإدراكية.


لذلك فالقيادة الذاتية آلية فعالة لتسهيل التمكين من خلال تعزيز الإدراك بالمعنى، الغرض، تحديد المصير، والكفاية الذاتية.

أهمية القيادة الذاتية:
من بين الدراسات التي أثبتت وجود علاقة بين جودة الحياة ومفهوم الذات: دراسة (بخش): التي هدفت إلى التعرف على العلاقة بين جودة الحياة ومفهوم الذات لدى المعاقين بصريا والعاديين، وقد أسفرت نتائج الدراسة عن وجود علاقة دالة موجبة بين مفهوم الذات وجودة الحياة لدى عينة العاديين والمعاقين بصريا، ووجود فروق ذات دلالة إحصائية في مستوى جودة الحياة والمعاقين بصريا لصالح العاديين.


ودراسة (المضحي): التي هدفت إلى التعرف على العلاقة بين جودة الحياة وكل من الأمل ومفهوم الذات لدى الأحداث الجانحين وغير الجانحين، والتعرف على إمكانية التنبؤ بجودة الحياة من خلال الأمل ومفهوم الذات، وقد أسفرت نتائج الدراسة عن وجود علاقة موجبة دالة إحصائيا عند مستوى دلالة 0.01 بين جودة الحياة ومفهوم الذات لدى الجانحين وغير الجانحين.

استراتيجيات القيادة الذاتية:
تتوزع استراتيجيات القيادة الذاتية بشكل عام إلى ثلاث فئات رئيسة :

  1. استراتيجيات تركيز السلوك.
  2. استراتيجيات المكافأة الفطرية.
  3. استراتيجيات أنماط التفكير الاستدلالي.
     
    أولاً: استراتيجيات تركيز السلوك.
    وصممت لزيادة الوعي الذاتي التي تقود للإدارة الناجحة للسلوكيات المتضمنة القيام بمهام ضرورية ولكنها غير محببة أو مرغوب بها .
    وبناء على نظرية الإدارة الذاتية والتحكم الذاتي، تشمل القيادة الذاتية لاستراتيجيات تركيز السلوك: الملاحظة الذاتية، تحديد الأهداف الذاتية، المكافأة الذاتية، المعلومات المسترجعة للتصحيح والمراجعة الذاتية.
     
    ثانياً: استراتيجيات المكافأة الفطرية.
    تركز على الأوجه المشوقة والممتعة الملازمة للمهام أو النشاط وتصمم لخلق أوضاع تجعل الفرد يشعر بالتحفيز والمكافأة عن طريق المهمة أو النشاط ذاته .

وتشمل استراتيجيات المكافأة الفطرية على نموذجين رئيسين:

        1. بناء صورة ذهنية أكثر متعة وتشويقا للمهمة أو النشاط من اجل الحصول على قيمة من خلال المهمة ذاتها وتصبح بذلك محفزة فطرياً .
        2. تشكيل الإدراك الحسي للفرد للنشاط الذي يؤديه عن طريق التركيز على تلازمها مع أوجه المكافأة .

وكل من النموذجين في حقيقة الأمر بتعزيز الشعور بالكفاية وتحديد المصير الذاتي.


ثالثاً: استراتيجيات أنماط التفكير الاستدلالي.
تتعامل مع إدارة العمليات المعرفية وتشمل ثلاث أدوات رئيسة لتشكيل أنماط التفكير: التحليل الذاتي وتحسين نظم المعتقدات، التخيلات الذهنية لنتائج الأداء الناجح، والحديث الايجابي للنفس .
إن الاستخدام الفعال لتلك الاستراتيجيات المعرفية المحددة يعنى بتسهيل تشكيل أنماط التفكير الاستدلالي وأساليب فطرية للتفكير التي من الممكن أن تؤثر على الأداء بشكل ايجابي . وبشكل أكثر تحديداً، يستطيع الأفراد فحص أنماط تفكيرهم من أجل تحديد، مواجهة وإحلال المعتقدات والافتراضات السلبية بمعتقدات عقلانية وايجابية لتسهيل أنماط تفكير أكثر استدلالية.

 

الخاتمة:
معرفة الذات قد تكون رحلة طويلة تستغرق العمر بأكمله، وقيادتها تستلزم كثيراً من الجهد فوق ذلك، لكن إذا كنت ترغب في تجربة حياة سعيدة وتنعم بعلاقات إيجابية وقدرة عالية على فهم ذاتك وتعطي للحياة معنى، فإنه من المهم أن تنظر إلى داخلك أولاً، أن تفهم احتياجاتك وما ترغب به، وما تشعر به حيال نفسك فهذا كله مؤثر على كل ما تفعله في حياتك، ويؤثر على طريقة تفكيرك وفي عملك ومشاعرك نحو الآخرين، وفي قدرتك على النجاح وإنجاز الأهداف في حياتك، فمع احترامك لذاتك وتقديرك لها تزداد الفعالية والإنتاجية.

وإنّ القدرة على قيادة الذات نحو بر الأمان أمر لابد منه، ومن المهم أن يعرف الإنسان أنه يستطيع أن يختار الطريق الذي يشعر معه بالثقة ويعبر فيه عن ذاته والذي بناه وأسسه بنفسه.


تمثل هذا البحث أبرز الأفكار الرئيسية والخطوط العريضة لفهم الذات ومعرفتها وتقديرها واحترامها، ولازال هناك الكثير أمامنا لنتعلمه.
ومن وجهة نظر الباحثة فإنه لتحقيق النجاح في القيادة الذاتية يجدر بالفرد الاهتمام بذاته والالتزام بالاستراتيجيات التي تساعده على القيادة، فقد يكون من المفيد أن يفكر الإنسان بنفسه ويسبر أغوارها قبل أن ينطلق إلى الآخر، فمن السهل أحياناً قيادة الجموع ولكن من الصعب قيادة نفسك.


وتوصي الباحثة بعمل المزيد من الأبحاث عن تقدير الذات وإجراء الدراسات المعمقة في مجال القيادة الذاتية. وتدريب العاملين في مجال الصحة النفسية على استخدام استراتيجيات القيادة الذاتية لتطوير أنفسهم وعملائهم.

مشاركة المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إن كان لديك أي مشكلة أو استفسار أو سؤال يمكننا مساعدتك فوراً عبر التواصل سجل اسمك ورسالتك : ​

Contact Form Demo